ذات ظهيرة يوم ثلاثاء وأنا منهمك في مشروع يجب أن أسلمه قبل مساء ذلك اليوم؛ صرخ زميل يجلس قبالتي عادة وهو غاضب:
- "لماذا يرسل الكثير من الناس صوراً ومقاطع موجعة عن غزة؟! مالذي سأفعله لكي يرسلوا لي ذلك؟!"
هذا السؤال الملحّ بات يضج في صدري ويرنّ في رأسي منذ الثاني والعشرين من ربيع الأول / السابع من أكتوبر لعام ٢٠٢٣ -بالتاريخ النصراني-، هل حقاً لا نستطيع أن نفعل أي شيء؟
في صباح اليوم التالي بسطت أمامي ورقة وقلماً، إذ لم أستطع النوم جيداً بالأمس، كتبت السؤال بخط عريض: هل حقاً لا نستطيع فعل شيء؟ ثم أعدت صياغته بخط أصغر منه في الأسفل: ما هو الشيء الذي يجب أن نفعله مما نستطيعه لنصرة غزة؟ أرسلت هذا السؤال لمجموعتين من الأصدقاء، أعلم أن ذلك الصباح لم يكن عادياً، لقد كان صباحاً أسوداً، ففي البارحة منه كان قصف المشفى المعمداني والذي عُدّ حدثاً فارقاً لبشاعته ووجعه، وهنا أهتبل الفرصة للفت النظر إلى أمر من الأهمية بمكان، إن الواقع المعاش اليوم بالغ الصعوبة والتعقيد، وهو واقع غير صحي بالمناسبة، أعني أنه لم تمر على المسلمين في عصور سابقة معاناة للمآسي والأحزان كما يمر عليهم اليوم، أذكر أن ابن جبير في رحلته: "تذكرة الأخبار في اتفاقات الأسفار”؛ تحدث عن خبر بلغهم عن بعض بلدان المسلمين في الشام في القرن السادس الهجري وما حل ببعض النساء والأطفال من القتل والسبي[1]، وما يجب أن نفهمه هنا ملاحظة لها أهميتها:
أولاً: هذا الخبر بلغ ابن جبير بعد وقوعه بأيام، لذا فوقعه على نفوسهم أهون.
ثانياً: هذا الخبر بلغ ابن جبير مجرداً عن الصور والمشاهد الفظيعة ولا يخفى فرق الأثر النفسي بين الأمرين.
ثالثاً: هذا الخبر بلغ ابن جبير والثغور قائمة والرباط موجود، ومن أراد المشاركة بالمال أو الطعام أو النفس فالأمر سهل ميسور، أي أنك تستطيع أن تربت على ضميرك بالنصرة المادية لهم، وهذا يختلف عن كونك لا تستطيع أن تقدم لهم رشفة ماء!
لذا يجب أن نعي أن واقع اليوم بالغ التعقيد والصعوبة، وأنه واقع غير طبيعي في الحقيقة، وفي ظل العيش فيه؛ كيف يمكن أن نعالج هذا السؤال الدقيق والمشكل:
ما هو الشيء الذي يستطيعه كل مسلم ويجب أن يفعله لنصرة القضية الفلسطينية؟
إن أدوات الصراع اليوم وآلياته لم تعد مقصورة على القنابل والذخيرة، ثمة نوع من أدوات الصراع له قوته وتأثيره، وإن كان ضجيجه ناعماً بالنسبة لضجيج القنابل -مثلاً-، وقد تبدو له ألوان زاهية بعض الشيء، ففي القرن الحديث أصبح للأداة الإعلامية والأصوات الشعبية أثر في تبرير المآسي وفي ردعها كذلك، وهذا الخداع الإعلامي والتمويه البصري واللغوي الذي يمارَس اليوم للتضليل الشعبي وتبرير الوجود الإسرائيلي والانتهاك الصهيوني هو في حقيقته أداة من أدوات القتال والصراع في هذه الحرب، إن ترك هذه الأداة بيد القاتل لوحده يعبث من خلالها بعقول البشر في أنحاء العالم ومقاتلتها بالسلاح والذخيرة فقط هو انتحار في حقيقته وخسارة محققة، هذه الأداة الإعلامية إنما تحارب من داخلها، ولا يمكن أن تقاتل من خارجها، أي أن هذه الأداة الإعلامية لا يمكن أن تهزم إلا بالأداة الإعلامية نفسها، ومهما دافعتها بالسلاح والعراك فستظل تهزمك مرة بعد أخرى وتبرر كل سرديّاتها الكاذبة من خلال قتالك لها مالم تقضِ على وجودها -البتة- وهو أمر بالغ الصعوبة بعض الشيء في عالم متسع وبمعطيات ضئيلة، إن الذي يعوّله عليك المظلوم في كل مكان -وفي غزة خصوصاً-؛ أن توظف هذه الأداة الإعلامية في نشر حقيقة الصراع وفضح الأكاذيب الباهتة التي تحاك ضدهم، هذا النوع من القتال هو ما لا يستطيعه إخوانك في غزة وأنحائها لانشغالهم بالصراع الحيّ مع المحتل في الداخل، وهو النوع الذي تستطيعه أنت ويستطيعه كل مسلم، هذا القتال الناعم يبدأ من حيث تعلّم أبناءك وإخوانك الصغار: لم لا يوجد أي حق إسرائيلي بأرض فلسطين؟ وكيف احتلت إسرائيل فلسطين ومارست القتل والتشريد منذ القرن الماضي وحتى اليوم؟ ولم يجب علينا نصرة إخواننا في غزة بما نستطيع؟ ومالذي يحدث حقيقة اليوم في غزة وفي فلسطين؟ ولا ينتهي عند هذا الحد بل يمتد إلى إثارة الاهتمام بهذه القضية والتوعية بها في اجتماعات أقاربك وأصحابك وزملائك في العمل وغيرهم، هذه الوسيلة التي تبدو للوهلة الأولى تافهة لبساطتها؛ هي في حقيقتها وسيلة فاعلة ورهيبة في قوتها وأثرها، إن التركيز على نشر الوعي وفضح الأكاذيب وبيان الحقائق وإثارة الاهتمام هو من أوجب الواجبات التي يستطيعها كل مسلم، هذا الوعي الذي يبدأ بك سوف يمتد ويتضاعف من العشرات إلى المئات إلى الألوف إلى الملايين! وهو ما يسمى بالوعي الشبكيّ الذي يتكون من وحدات صغيرة فردية ذريّة وينتقل إلى وعي عابر للقارات مروراً بالمجالس والمحافل الاجتماعية وانتهاء بأشهر حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما رأيت بعينيك أثره في المقابلات التلفزيونية والمؤتمرات الصحفية، وفي انتشار كثير من الصور والمقاطع والأخبار الموجعة التي بعثت المسيرات المناهضة في أشد الدول عداوة لفلسطين، وفي مقاطعة كثير من الشركات الضخمة وإرغامها على الاعتذار والخنوع، هذا الوعي يبتدئ بك وبعائلتك وأصحابك وجيرانك ويمر بمجتمعك ومدينتك ويصل إلى المدينة المجاورة لك، ثم يستحيل إلى صوت جماهيري قاهر وصلب يهزم كل السرديات الإعلامية الكاذبة ويفضح كل الانتهاكات الصارخة ويتحول إلى ورقة سياسة ضاغطة على الشركات والمؤسسات والدول المعتدية، أعلم أنك -ربما- لم تجد أثرآً مباشرآً وفعالاً لهذا الوعي الذي تنامى بعد حرب السابع من اكتوبر، ولعلك قرأت بعض المقالات التي تقلل علمياً من جدوى المقاطعة الاقتصادية، إلا أن المسألة ليست محددة بالسلوكيات المتمثلة بالمقطاعة الاقتصادية أو الكفاحات القانونية، إنما كل هذا في الحقيقة لإنضاج الوعي وتثويره، هذا الوعي هو الذي أبقى على قضية فلسطين مشتعلة تنبض بالحياة على مرّ ٧٠ سنة يتداولها الأقوام جيل بعد جيل، وهو الذي أيقظ فتاة لم تتجاوز الخامسة عشرة ولم تشهد حرب ٦٧ ولا انتفاضة ٢٠٠٥م لتكتب وتنشر وترد وتقارع بحسابها المغمور على التيك توك أو الفيسبوك، لأن النسيان هزيمة، والوعي انتصار!، هذا هو الذي تستطيعه أنت سواء كنت صغيراً أم كبيراً ذكراً أم أنثى ولا يستطيعه الطفل والشاب والكهل الذي يعاني من الحصار الغذائي والجغرافي والتقني في غزة، فإنما تهزم عدوك بسلاحه لا بسلاح آخر، وهل يريد منك عدوّك أكثر من النسيان؟
إذاً؛ هل هذا كل شيء؟ في الحقيقة لا.
لقد قصّ الله علينا قصة جالوت وطالوت، تلك المعركة الشهيرة بين الحق والباطل والتي انتهت بقتل داوود لجالوت، ألا يلفت انتباهك في أثناء هذه القصة الرهيبة قول الله -تبارك وتعالى- "ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"؟ ثم ألا يذكرك ذلك بقصة غزوة بدر التي بيّن الله أحداثها في سورة الأنفال؟ أرأيت هذه المشابهة الرائعة؟ فلما التقى الجيشان، واصطف الفريقان وكانت أول معركة بين جيش الإسلام وجيش الكفر، قال -جل وعلا-: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين"! أرأيت أثر الدعاء في تحقيق النصر واستجلاب الغوث والفرج من الله؟ إن ركيعات في جوف الليل ودعوات صادقة لمسلم لا يستطيع أن يبذل أكثر منهما لهو شيء عظيم عند الله وحقيق أن يبذله بنفس صادقة وعين دامعة وقلب خاشع، وهذا من أعظم النصر وأظهره، فهل حقاً لا نستطيع فعل شيء؟!
إن بين فعل كل شيء وبين عدم فعل أي شيء مساحة شاسعة نتحرك فيها ويتبوؤها السواد الأعظم من المسلمين، فليس الأمر منحصر في ثنائية صارمة: إما أن تفعل كل شيء، وإما أن لا تفعل شيئاً، وبين العجز والتغيير تكمن القدرة، وقد قال ﷺ” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”، فسمى ذلك كله تغييراً على تفاوت أثره في على الواقع، لأن الغاية من التغيير هي إزالة المنكر عن المشاهدة، فإن عدمت هذه الغاية فلا تترك غاية إزالة أثره من القلب، ولذلك ينقل ابن تيمية عن ابن المقفع قاعدة نفيسة في هذا الباب بقوله: “الأمر أمران: أمر فيه حيلة (قدرة) فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة (قدرة) فيه فلا تجزع (تيأس) منه.".[2] وهي قاعدة نفيسة لو تأملتها.
إن كل ما قيل فيما قيل هو -بالطبع- عام لكل مسلم، فضلاً عن أن يكون له منبر يؤثر فيه، كأن يكون معلماً أو خطيباً، فضلاً عن أن يكون كاتباً ومؤلفاً أو شاعراً أو مترجماً، فضلاً عن أن يكون مؤثراً في وسائل التواصل الاجتماعي سواء أكان عالمًا أم مثقفاً، صحفياً، سياسياً، مغنياً ،لاعباً، ممثلاً، أياً يكن، فضلاً عن أن يكون قادراً على التصوير والإنتاج، فضلاً عن أن يكون قادراً على الانخراط في كفاحات قانونية، فضلاً عن أن يكون قادراً على مد يد المساعدة والغوث، فأنت بقراءتك واهتمامك وعنايتك، ونشرك للوعي بين أهلك وأقاربك وأصحابك وتحفيزهم لتوعية غيرهم؛ تستطيع أن تصل لأولئك كلهم، لأن النصر كامن في جوف الوعي والإيمان، والهزيمة ناشئة من باطن الغفلة والنسيان، فجدد العهد، لأنك حقاً تستطيع فعل شيء!
[1] رحلة ابن جبير ص٢٦٠
[2] مجموع الفتاوى ج١٦ ص٣٩.