الأقسام

في مديح العمل

 أدون هذه الكلمات بينما تطلق الشمس بزفراتها آخر ما تبقى من أنفاسها آيلة للغروب، ومن خلف أشجار السدر الصغيرة التي يشبه حفيفها خربشة أوراقي المبعثرة يعلن عازف الليل بصوته الروتيني الهادئ انتصاراً جديداً للغسق، ألا يحيرك أن هذه الحشرة الصغير لا تمل وهي تدندن النغمة ذاتها بالإيقاع ذاته كل ليلة؟

اعتادت زوجتي كل مساء أن أطرق الباب الجانبي قبل دخولي فناء المنزل معلناً وصولي من العمل بعد يوم شاق ومرهق، حيث أسابق غروب الشمس كل ليلة للوصول إلى البيت متحدياً زحام العاصمة "الرياض" كل مرة، وبعدما تنتهي حلقة الشتائم المتكررة بسبب الزحام وحرارة الجو وتسرب النهار بسرعة شديدة أسائل نفسي مسترضياً لها: ما هو حجم الأهداف والمشاريع التي سيحققها المرء لو لم يكن لديه عمل يزيد عن ٨ ساعات يومياً في مدينة مزدحمة؟!

الآن وبينما أكتب هذه الذكريات البسيطة،: "الآن"، أنا في آخر أيام إجازتي الطويلة والطويلة جداً والتي اخترتها بعناية الله لتكون مرحلة فاصلة بين مشاريع عدة؛ وعلى أعتابها أحاسب نفسي على ما أنجزت من مستهدفات ومشاريع مخجلة وقليلة مع التفرغ التام الذي حظيت به في هذه الإجازة، وأتساءل كما كان”بطل لوليتا” يتساءل في روايته: "لماذا كنت آمل أننا سنعيش بسعادة في الخارج؟ إن تغيير الأجواء مجرد مغالطة يتشبث بها العشاق الذين كتب عليهم الفشل" [لوليتا ص٣٢١] فهل حقاً كانت مغالطة مني أن أظن بأن بالإنجاز في أيام التفرغ التام كالإجازات أكثر من الإنجاز في أيام العمل الطويل المرهق؟ أم ثمة خطأ ما؟

في مديح العمل!

لقد كان للعمل حسنته التي ينبغي أن لا تُغفل البتة، لقد كان العمل بمثابة المرتكز أو الثقل الذي يثبت كفّتي الميزان، إنه أشبه بالجاذبية التي تمنحنا الحركة والدوران وإمساك الأشياء أو رميها بعيداً، إنه على الرغم من ثقله وقهره والإرهاق المصاحب له إلا أنه الطاقة الحرارية والوقود المحترق الذي يدفعنا للسعي والإنجاز خارج أوقات العمل في كل يوم، أليس هذا غريباً أن تكون أكثر أوقاتنا انشغالاً هي أكثر أوقاتنا إنجازاً؟ فما السرّ في العمل؟!

بعيداً عن أهمية الأمان الوظيفي، والاكتفاء المادي، إلا أن هذه بالتحديد لا تؤثر تأثيراً مباشراً في الإنجاز خارج العمل، فامتلاك ثروة كبيرة قد يجلب العجز والكسل والخمول، ووجود المال من عدمه ليس هو نقطة الارتكاز في ذلك، لا يعني أن القلق المالي غير مؤثر على المرء في السعي والإنجاز الشخصي، فالناس متفاوتون في ذلك، لكن الذي أقصده أن انعدام هذا القلق المالي والشعور بالاكتفاء المادي ليس موجباً بالضرورة للإنجاز ولو امتلك المرء ساعات البشر كلهم، فأين يكمن السر في حقيقته؟

إن السر في العمل كامن في الروتين والديمومة! في طرق الباب الجانبي كل ليلة، في السباق المحموم مع زحام الرياض عند غروب شمس كل يوم، في الاستيقاظ كل صباح في الوقت نفسه والساعة نفسها للخروج إلى العمل، إنه الديمومة المستمرة التي يمنحنا إياها العمل بصفته أثقل الأعمال المستمرة وقتاً وكيفاً، هذه الاستمرارية المحددة بوقت، وبجهد نسبي، هي ما يمنح يومنا الثبات والارتكاز، هي ما يكسبه قيمة الديمومة، هي ما يجلعنا نعرف ما سنفعل وكيف نفعل، هي ما يذلل لنا ربط عادات حسنة مختلفة كقراءة كتاب أو تحديد مناسبة اجتماعية أو ممارسة رياضة بوقت محدد أو حال محددة، إن شعور المرء بامتلاء جزء ثابت من الوقت يومياً يعينه على استغلال الشطر الآخر من وقته، ويسهل عليه صياغة الساعات المتبقية كيفما شاء، ويمنحه الاعتياد (الروتين) على حال دائمة يمارس فيها يومه وليلته، إنه يضيق علينا الخيارات الممكنة، ويقف حاجزاً لنا دون تسويف أمر أو تغييره، أو دون الشعور بإمكانية فعل كل شيء في أي وقت، وهذا هو بالضبط ما يجعلنا لا نفعل أي شيء يذكر -أحياناً- في بعض أيام الإجازات، إنه شعور المقدرة والإمكان والرحابة التي يصدّع يومنا فتتسرب منه الأوقات دون شعور منا على ما نمتلك من رضى نفسي وطمأنينة بداخلنا، إن مرتكز الإنجاز ليس في الفراغ ولا في القدرة على الإنجاز في أوقات الفراغ، إن مرتكز الإنجاز في الديمومة والدأب؛ وهو ما يمنحنا إياه العمل (الدوام) في كل يوم، إنه الأداة الأهم التي تضخ فينا قوة الانضباط الذاتي، وتدعمنا من الجانبين خلال سيرنا على حافة الوقت!

إن مجرد نسيم عابر لا يجعلنا نسمع حفيف أوراق الشجر مالم يكن مستمراً، ولو لم يدأب عازف الليل على عزف سيمفونيته الرتيبة في كل ليلة لربما لم يعبأ به أحد ولم تنتبه له أذن، ولن يصل زورقك الصغير إذا ألقيته في بحر كبير هائج تدفعه الأمواج من كل جهة، لكنك لو وضعته في نهر يجري تياره لوجهة محددة وتحده الضفاف من كل جانب فهو لا محالة بالغ أمره، إنها معادلة واضحة وسهلة في الوقت نفسه، إن بحر الفراغ يُغرق كل شيء ويجعلك في مواجهة مع نفسك وسط متاهة دائمة ومستمرة، ألا ترى أن ماء النهر يغلب الصخر فيحفر فيه حتى يوجد مساراً ملائماً له؟ إنها ديمومة العمل ووحدة الاتجاه وقوة الوقت، فـ"المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"، وظفر حقاً من دأب وصبر.

للمشاركة:


تعليقات



للإشتراك في النشرة البريدية 📩