مؤخراً بدأت تظهر لي بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من “الفيديوهات” التي يوجهها أصحابها إلى المنتقلين حديثاً للسكن في الرياض لفرص العمل أو الدراسة أو غيرها بوصايا عديدة تتّسم في معظمها بالحذر والتحفظ ومخاوف أخرى كثيرة، بسخرية قال مرة أحد الأصحاب: “لقد أصبحت الرياض بالنسبة لباقي مدن المملكة العربية السعودية بمثابة الحلم الأمريكي!” ويخبرني صديق لي عن قريبه الذي انتقل مؤخراً للعيش في مدينة الرياض لفرصة عمل أفضل، إلا أنه لم يستطع احتمال العيش فيها ليس للغلاء فحسب؛ وإنما لأسباب أخرى كثيرة، فلما عزم العودة إلى مدينته امتنعت زوجته وبناتها من الانتقال معه مما ثناه ذلك عن عزمه، ربما لا يشعر سكان مدينة الرياض الذين عايشوا تغيراتها المتسارعة -مؤخراً- بحجم التغير الذي أحدثته هذه المدينة في نفوسهم وشخوصهم، الشباب والفتيات على وجه الخصوص الذين أتموا العشرين أو الثلاثين من أعمارهم خلال السنوات العشر الأخيرة.
ذات ليلة عند خروجنا من مطعم “فاخر” في شمال مدينة الرياض، ذكرني صديقي بسؤال أفضيت به إليه ذات مرة قائلاً له: “لماذا اختلف شعورنا بالسعادة مؤخراً تجاه الممارسات التي كانت تسعدنا كثيراً في الماضي؟!”، وعلى سبيل المثال فعندما أتذكر بعض اللقاءات العفوية قبل ١٠ سنوات مع بعض الأصدقاء، أو ممارسة بعض الهوايات المشتركة، فإنني أحتفظ بذاكرة مليئة بالبهجة والأنس تجاه تلك الممارسات، أما اليوم فإن ذات الممارسات عندما نكررها من جديد فإنها لا تشعرنا بحجم السعادة نفسه!؟ الطلعات الشبابية، الهوايات الترفيهية، اللقاءات العفوية، وغيرها، مع أن الأشخاص هم نفسهم الأشخاص لم يتغيروا! فما لذي اختلف؟ كنت أخبرته حينها أن هموم كسب الرزق وإعالة الزوجة والأبناء هي السبب الأكبر، حيث أصبحنا منشغلين بها أكثر من أي وقت سابق، وبات قلب المرء متفرقاً في أودية كثيرة من الهموم، أليس كذلك؟ أخبرني صديقي أن هذا السبب الذي ذكرته له وإن كان وجيهاً -وهو جزء من الحقيقة لا شك- إلا أنه ليس السبب الحقيقي!، قال لي: “لقد بات هذا السؤال يلاحقني في الليالي الماضية”، ثم استأنف: “ظللت أفكر بهذا الأمر كثيراً وأتأمل اختلاف الأحوال والبواعث والمسببات، عندها اكتشفت أن السبب الحقيقي هو أن مستويات الرضى لدينا شباباً وفتيات؛ قد اختلفت عما كانت عليه من قبل، ففي السابق كان المرء يقنع بقدر يسير من الممتلكات والمقتنيات والنجاحات والممارسات في حياته لتشعره بالسعادة، أما اليوم فباتت متطلبات المرء ومرغوباته وآماله وطموحاته أكبر مما كانت عليه وأضخم من واقعه، عندها بات القلق والتحسر يلاحقانه في كل وقت وحيثما كان ليفسدا عليه سعادته في أشيائه الصغيرة قبل أشيائه الكبيرة” بعد أيام أخبرت صديقي أن صدى جوابه هذا لم يزل يتردد في مسمعي منذ فارقته!
في كتابه "قلق السعي إلى الرزق والمكانة" يقول بوتون: "أن كل ارتفاع في مستويات تطلعاتنا يستتبع بالضرورة ارتفاعاً في مقدار مخاطر الشعور بالمهانة”، دعني أشرح هذا الكلام بأسلوب سهل التناول: إن تعاظم الطموحات لدينا وفشلنا المستمر في تحقيقها ينعكس على تقديرنا لذواتنا، فعندما تصبح الصورة النمطية للشاب الناجح هي سيارة شبابية فارهة ووظيفة مرموقة إضافة إلى انشغاله مساءً بعمل تجاري أو ما اصطلح عليه مؤخراً بـ “ريادة الأعمال”، والسفر في الإجازات إلى النمسا والنرويج، والظهور في الانستقرام بياقة فاخرة، وساعة رولكس فارهة = فإن انعكاس هذه الصورة النمطية للنجاح على شكل طموح شخصي لكل شاب يسعى إليه دوماً = هو ما يقلل تقدير الشاب لذاته ويبعثر رضاه عن نفسه، وعند ذلك فإن هذا الطموح الذي لم يتحقق -ومن المحال أن يتحقق لكل أحد- سيتحول إلى شبح من القلق والحسرة يلاحق الشاب في كل لحظة من حياته ليفسد عليه سعادته، ولا يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، فكلما حقق درجة من السعي إلى طموحه طمعت نفسه بدرجة أعلى منها لأنه يرى غيره في سنابشات أو تيكيتوك أو إنستغرام قد بلغوا درجات أعلى من المكانة وحيازة المال، وكلما فشل في تحقيق شيء من ذلك تحول فشله إلى وحش ينهش تقديره لذاته ورضاه عنها! حقاً “إن التخلي عن الطموحات الكبيرة لهو نعمة جالبة للارتياح بمثل قدر تحقيقها تماماً!!، تبزغ خفة غريبة في قلب المرء إذا ما تقبل بإيمان طيب ألا يكون شيئاً مذكوراً في مجالٍ محدد، أي يوم مبارك سعيد يحلّ عندما نتخلى عن كفاحنا للاحتفاظ بالشباب والرشاقة، لسوف نقول: "الحمد لله، لقد زالت عني تلك الأوهام"، إن كل ما يضاف إلى الذات هو عبء مثلما هو مفخرة!”[1].
سوف أراهن بمجازفة الآن؛ بأن الحنين إلى مشاعر السعادة التي كان يتذوقها المرء في صغره ليس بسبب المسؤوليات المتراكمة عليه، قد تُقلّص المسؤوليات المتراكمةَ الوقت الذي يقضي فيه المرء أنشطةً تشعره بالسعادة، لكنها لا تفسد مزاج المرء وتفقده شعوره بالسعادة عند ممارسة الأنشطة ذاتها! إنما يفسد مزاج المرء وشعوره بالسعادة هو التجوال البصري في معارض المباهاة الافتراضية على تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي التي يستعرض فيها كل أحد أفضل ما لديه ولكن بقدر من المبالغة البريئة -إن صحت العبارة-!، أخبرني عن فتاة للتو تخرجت من الجامعة لا تنتظر سوى فارس أحلامها الذي تطمح أن تعيش معه حياة رضيّة هانئة طيبة وتحظى بأطفال وسيمين رائعين تبتهج حياتها بهم، فإذا بها كلما جلست مجلساً سُئلت عن وظيفتها وعن طموحها المهني وعوتبت في الفرص الوظيفية الضائعة عليها، وكلما تصفحَت حسابها على الآنستغرام شاهدت زميلاتها ومعارفها يتباهون باقتناء أحدث الماركات الفاخرة، ويجوبون أصقاع الأرض باحثين عن أحدث “الهبات” التي تكسبهم المعنى من وجودهم على هذا الكوكب! وإذا أرادت أن تصور بعض يومياتها البسيطة الهادئة لصديقاتها أحجمت عن ذلك عندما ترى يوميات المشاهير تغصّ بأنواع مختلفة من تمثيليات المباهاة المتقنة! لقد فسدت أمزجة الشباب والفتيات، وأصبح الشعور بالرضى الذاتي أبعد مما كان عليه، وباتت القناعة لفظة لا معنى لها، وتغيرت المواضيع التي تدور خلال الاجتماعات العائلية في الأعياد والمناسبات؛ فأصبحت أحاديثاً تساهم في تقليل مكانة الشاب في نفسه لما يسمع عن النجاحات المادية التي حازها غيره، أو كلما سأله أحد أقاربه عن وظيفته ودخله، عندها، باتت طموحات الشباب والفتيات تتغير بحسب السؤالات التي تطرح عليهم في اجتماعاتهم العائلية كل مرة، أما الطمأنينة الشعورية فأصبحت أمراً بعيد المنال، وأضحى الشاب والفتاة يشعران بتماوج شديد في مفاهيمهم للحياة، فالسعادة صارت مفهوماً يُعاد تعريفه من جديد مع شروق شمس كل يوم بحسب “الهبة” الجديدة، وإعلانات ”مشاهير السوشل ميديا”، وطفّات ”شباب وبنات الرياض”! وعما قريب سوف يُحكم على النشاطات الشعبية البسيطة كاللقاءات المنزلية العفوية بين الأصدقاء والصديقات بالهلاك والاندثار في عواصم العمل، وستستبدل الاستراحات الشبابية الأسبوعية بالمقاهي والمطاعم الفاخرة التي تتجدد بحسب “الهبة الجديدة”، وسيعبّر “الويكند” عن صورة من صور المفاخرة بالاستهلاك المادي أكثر من كونه صورة من صور البهجة البسيطة، وستؤول الحياة في عواصم العمل إلى سباق محموم لا نهاية له ولا توقف فيه.
أي جحيم ينتظر شاباً وفتاة في مقتبل عمرهما إن كانت الوظيفة المرموقة -التي لا يكاد يحصلان عليها إلا قبيل منتصف العمر- أهم بالنسبة إليهما من الزواج بفتاة تحبه أو شاب يحبها، وإذا كانت مؤشرات النجاح تتمثل في سيارة فارهة، وساعة باهظة الثمن، وقميص جديد، وارتياد مطاعم راقية كل مرة، والظهور بمظهر استهلاكي منافس على الانستغرام والسنابشات والتيك توك! لقد بات الشباب والفتيات يعيشون في حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر مما يعيشون في واقعهم الحقيقي، وأصبحوا ينظرون إلى أنفسهم ويقيّمون ذواتهم من خلالها أكثر مما يقيمونها من خلال واقعهم، فما عادوا يستطيعون العثور على معنى لوجودهم، ولا يشعرون بالقيم التي تميزهم حقيقة عن غيرهم، نعم، “لا يوجد عيب في الرغبة بالحصول على حياة أفضل، كل ما في الأمر أن السعي للمزيد دائماً، والرغبة في أن يتم تعريفنا من خلال إنجازاتنا وممتلكاتنا = من الممكن أن يعوّقنا عن أمور حقيقية؛ مثل قضاء بعض الوقت مع من نحب، وقضاء بعض الوقت في فعل الأشياء التي نحبها نحن”[2]، وفي النهاية فإن "معظم الرجال-والنساء- يجرون لاهثين وراء المتعة فيعبرونها من دون أن يشعروا بها!”[3]، وسيقولون ذات يوم كما كانت تقول “جريس” على فراش الموت: ”كنت أعيش الحياة التي يتوقع مني الآخرون أن أحياها، لا الحياة التي أردتها لنفسي!”[4].
[1] ويليام جيمس، قلق السعي إلى الرزق والمكانة.
[2] أكثر خمسة أشياء يندم عليها المرء عند موته ص٦٢.
[3] سورين - في مديح البطء ص١٩١
[4] أكثر خمسة أشياء يندم عليها المرء عند موته ص٣٧.