«إن أبناء نيويورك العاديين يمشون دائماً وكأن أمامهم وجبة غداء دسمة، ووراءهم رجل شرطة» [مراقب من القرن التاسع عشر]
على قارعة الطريق، يوجد شيء ما تافه لا تأبه به، ملقىً على منحدر الرصيف الموازي لك، شيء يشبه ورقة شجرة حمراء أو قطعة جصٍ مكسورة، سواء أرعيت انتباهك له ذات مرة أم لم تنتبه له، في المرة القادمة، عندما تمر مسرعاً من الطريق نفسه، يحسن بك أن تقف دقيقة وتنظر إليه، الأشياء التي من حولنا لم تعد من حولنا، لقد باتت خارج إدراكنا البصري بإرادتنا، لم نعد نتوقف لنتأمل زهرة جميلة نبتت بين الرخام، لم نعد نسمع حفيف أشجار الخريف، تغاريد الطيور عند الصباح، ضحكات الأطفال العابرة في السوق، كل هذا لم يعد يغرينا، متى كانت هي آخر مرة ذهبت تسير على قدميك بلا هدف سوى أن تتأمل جمال المنازل والأشجار في الحيّ الذي تسكن فيه؟ لم بٍتنا نسير دوماً لاهثين مسرعين في كل مرة، وكأن شيئاً ما يلاحقنا؟ والسؤال الأهم: لم نشعر دوماً بضيق في الوقت؟
مفهوم الزمن:
يغريني في ابني لعبه المطلق، فقر استشعاره لمعنى الوقت، غفلته عن مفهوم الزمن، فهو لا يعرف من الأوقات سوى “بكرا” وتعني بالنسبة له “المستقبل” بإطلاق، و ”العصر” وتعني بالنسبة له “الوقت القريب” سواء أكان في الماضي أم في المستقبل، هذا كل ما يدركه قاموسه من الزمن، وعندما يستيقظ من النوم في كل يوم فهو يبدأ رحلة جديدة في الحياة لا مثيل لها من اللعب والشقاوة ورفقة الآخرين والصخب والأنس بأقرانه ثم العودة إلى النوم من جديد، وهذا هو المعنى ذاته الذي أشعر أنني أفتقر إليه، الغفلة عن الشعور بالوقت، فمتى كانت هي آخر مرة مارستَ هوايةً ما تحبها -أياً تكن- دون النظر إلى الساعة بين حين وآخر؟ ومتى هي آخر مرة شاركتَ ابنك أو ابن أختك اللعب دون استراق النظر إلى الساعة بين دقيقة وأخرى؟ بالله عليك، أكلّ هذا أمر طبيعي حقاً؟ أم ثمة خطأ ما لا ندركه؟ “تُرى ما هو أول فعل تفعله عندما تستيقظ صباحاً؟ تسحب الستائر؟ أم تتدحرج لتحضن شريكك، أو ربما وسادتك؟ أم أنك تقفز من السرير، وتقوم بعشرة تمارين ضغط لضخ الدم في عروقك؟ حتماً لا. لأن أول ما تفعله، وأول ما يفعله أي شخص، هو التدقيق في الوقت! تدلّنا الساعة من عليائها في طاولة السرير على وضعنا؛ فلا تخبرنا أن نقف في مقابل ما تبقى من يومنا، ولكنها تملي علينا أيضاً كيفية استجابتنا. فإذا كان الوقت مبكراً، أغمضنا أعيننا محاولين العودة إلى النوم. وإذا كان الوقت متأخراً، قفزنا من أسرتنا متوجهين مباشرة إلى دورة المياه. تتولى الساعة اتخاذ القرارات بدءاً من لحظة الاستيقاظ الأولى، وهكذا تمضي الأمور على مدار اليوم، نهرول من موعد إلى آخر، بين مهلة زمنية وأخرى. فكل لحظة مرتبطة بجدول مواعيد، وأنّى نظرنا إلى طاولة السرير، أو المطعم، أو زاوية شاشة الكمبيوتر، أو معاصمنا، وجدنا الساعة تسير، وتتَتبع تقدّمنا، وتحثنا على الإسراع!”[1]
ذات مرة عندما ترجلت من سيارتي إلى مكان العمل، وبينما كنت أسير قريباً من البوابة، صادفت زميلاً لي، فالتفت لي مبتسماً ثم قال: يغريني صوت هذا الطير في كل مرة أدخل فيها من البوابة، لوهلة تنبهت إلى صوت تغريدٍ عذب وجميل من طير يعشعش فوق بوابة العمل، اللطيف في الأمر أن زميلي أخبرني أن هذا الطير يسكن هنا منذ مدة، وأنه يغرد كل يوم بالنغمات الجميلة ذاتها في هذا الوقت، والمدهش أنني لم أستمع لهذه النغمات إلا عندما نبهني زميلي لها، لم تكن نغمات خفية، إنما كانت خارج إدراكي السمعي بإرادة مني في كل مرة! فأين تكمن المشكلة؟!
ما هو الوقت؟
الوقت هو مجرد اتفاق ضمني اصطلحنا عليه مؤخراً، وأريد منك أن تعيد قراءة “مؤخراً” مرة أخرى، فلم تكن صدفة أن تبدأ جميع معارك أسلافنا مع بزوغ الفجر، إنما كان بزوغ الشمس وغروبها هو الوقت الأمثل للاتفاق عليه، نعم لقد وُجدت المزاول الشمسية منذ العصر الأموي، لكن لم توجد الساعة التي تخبرنا بالدقيقة والثانية وتلاحقنا في معاصم أيدينا وهواتفنا وشاشة سياراتنا وفي كل مكان نلتفت إليه، وليست المشكلة متمثلة في الساعة على وجه الحقيقة، إنما تتمثل المشكلة حقاً في طريقة تعاطينا معها، وفي أسلوب حياتنا الذي بات مؤخراً أشبه بأسلوب حياة آليّ بشكل ما، أليس من السخرية أننا نشعر بضيق الوقت كلما تقدمت التقنيات التي تساعدنا للحفاظ على وقتنا؟ فـ“بغض النظر عن سرعتنا، وجدولة مواعيدنا بذكاء، فإنه لا يوجد ما يكفي من ساعات اليوم الواحد وطالما كان الحال كذلك إلى حد ما. لكنّنا نشعر اليوم بضغط الوقت أكثر من أي وقت مضى. لماذا؟ ما الذي يجعلنا مختلفين عن أسلافنا؟ وإذا كان لنا أن نبطئ بأي حال من الأحوال، فإن علينا أن نفهم لماذا أسرعنا في المقام الأول، ولماذا بات العالم أكثر نشاطاً وخضوعاً لجدول مواعيد محكم”[2]
كنت أتحدث ذات مرة مع صديق لي عن هوس السرعة المحموم الذي أفسد كل شيء، فبمجرد أن تتصفح الفيديوهات الأكثر مشاهدة على أي منصة من منصات التواصل الاجتماعي فستجد -لا محالة- مقطعاً مرئياً أو أكثر يخبرك عن طريقة سريعة للحصول على شيء ما: أسرع رجيم، أسرع طريقة لتعلم الإنجليزية، أسرع طبخة، حتى عندما تشاهد مقطعاً مرئياً من هذه المقاطع فيمكنك أن تزيد سرعته إلى x2، ولا يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، بل ابتكرنا خرافات غريبة، وبدأنا ندرب الناس عليها كـ ”القراءة السريعة” و “المذاكرة السريعة”، وباتت كلمة "سريعة" متداولة في كل شيء، كـ "مطاعم الوجبات السريعة" و "الوجبات سريعة التحضير" و "البريد السريع" والقطارات السريعة" ، ومع ثورة الذكاء الاصطناعي أصبح البعض يسخر ممن لا يستفيد من chatGPT في تحضير الأعمال والمشاريع وإعدادها بأنه يضيع وقته! المدهش، أننا لا زلنا نشعر بضيق في الوقت وحاجة محمومة للإسراع مع كل ذلك!
في ورقته “ضوابط في مقاربة موضوع القيم”[3] يجادل باسم خفاجي على أن مسألة الالتزام الدقيق بالوقت إنما هو تسرب للفكر الغربي الصناعي الذي يؤكد على أهمية الوقت في مقابل الإنتاج، مستدلاً على فكرته بعناية الإسلام بمفهوم “الواجب المضيق” و ”الواجب الموسع”، فمعظم العبادات لا يحدد لها وقت معين بالدقيقة والثانية لفعله، وإنما يبدأ وقت العبادة وينتهي في مدة محددة، ويمكن للمسلم الشروع في العبادة في أيّ وقت خلال هذه المدة كوقت صلاة العصر مثلاً، كما أن العبادات تتمثل بالعمل في أحوال كثيرة أكثر مما تتمثل بالزمن، وفي سياق آخر يتتبع “كارل أورونيه”[4] بداية ظهور مفهوم الالتزام بالوقت لدى المجتمع الغربي مع بدء الثورة الصناعية، حيث بدأ ملّاك المصانع يسوّقون لأهمية الالتزام بالوقت لدى العمال وضرورة تحديد وقت معين لاستراحة العمل، وذلك في سبيل زيادة الإنتاج وتحقيق أكبر قدر من الربح المادي خصوصاً مع كونهم باتوا يدفعون أجورهم بالساعة، فقد كان العمال قبل ذلك يحضرون متى شاءوا، ويستريحون متى أرادوا، فبدأ أرباب العمل والمصانع يروجون لأهمية الالتزام بالوقت والدقة في المواعيد باعتبارها فضيلة أخلاقية سامية، وصفة نبيلة وطاهرة، ثم تسرب هذا الفكر للعالم العربي وبدأت أسلمته وتعريبه بطريقة هجينة، فظهرت استدلالات غريبة ببعض الأحاديث التي تؤكد على محاسبة المرء على كل لحظة من عمره في سياق التدليل على أهمية الالتزام بالوقت، وظهرت مؤلفات تحاجج على ضرورة الالتزام بالوقت من خلال الاستشهاد بحال علماء الإسلام مع الوقت وحرصهم عليه، ولا يخفى عليك أن ثمة بون شاسع بين الالتزام بالوقت في دقيقة محددة في كل شؤون الحياة، وبين الحرص على استغلال الوقت! فحقيقة الالتزام بالساعة والدقيقة المحددة والمحاسبة عليها إنما هو لدافع إنتاجي أكبر في الحقيقة، ثم تسرب الأمر لسلوكياتنا العامة حتى تنضبط مع إيقاع العمل والإنتاج المادي، وعندما تبصر من علوّ الصورة الكبيرة لمدينة يتحرك الناس فيها بكل اتجاه لاهثين ومسرعين فستدرك حتماً أن الساعة هي من يتولى مهمة توجيهنا وتحريكنا على الدوام!
ما العمل إذاً؟
ليست هذه دعوة إلى تجنب الالتزام بالوقت، فلست معنياً بذلك الآن، إنما هي دعوة لإعادة النظر في علاقتنا مع أنفسنا من جديد، إننا نستيقظ لاهثين، ونسير بالسيارة على عجل كي لا نتأخر عن أعمالنا، ثم ننخرط فيها واحدة تلو الأخرى، وبمجرد أن نشعر بالملل فإننا ننتقل مباشرة إلى وسائل التواصل الاجتماعي لنتقلب فيها للخلاص من الفراغ الذي نشعر به، سواء أكانت سناب شات أم تيك توك أم تويتر وغيرها، ثم نعود منهكين إلى بيوتنا وبالكاد ننفق الساعة أو الساعتين للجلوس مع والدينا وإخواننا وأبنائنا وزوجاتنا، وفي معظم الأحيان فإننا ننهي أعمالنا ومشاويرنا على عجل، ونشعر أن الوقت يلاحقنا في كل لحظة، ومع تعاقب الأعوام والشهور نتساءل بغرابة ودهشة عن سرعة الأيام! ويلاحقنا شعور دفين أننا لم نستغل أوقاتنا ونستمتع بها كما ينبغي! فليست المشكلة حقاً في الزمن ولا في الوقت، إنما في مفهومنا له وتعاطينا معه.
أُدرك أن ثمة أمور لا يمكننا أن نعالجها، فهي خارج إمكاننا وتصرفنا، كأوقات الحضور والانصراف في العمل والمواعيد الطبية والارتباطات الهامة ونحو ذلك، إلا أنني أدرك في الوقت نفسه أن ثمة أمور لا تزال داخل دائرة تصرفنا وإمكانياتنا، كالجلوس مع أحبابنا، والتأمل في الكون من حولنا، ومحاسبة نفوسنا، والرويّة في أداء العبادات المفترضة علينا، إن إنسان القرن الواحد والعشرين يستطيع فعل كل شيء، لكنه لا يستطع البقاء في غرفة مغلقة لوحده دون هاتفه! ويصيبنا الهلع عندما نغلق إشعارات هواتفنا ليوم واحد فقط، وهذا جزء من المشكلة، فعندما نتأمل في أحوالنا فإننا نجد غرابة في تعاطينا مع الوقت، فعلى شعورنا بفقر وضيق في الوقت؛ إلا أننا نسرف في إنفاق جزء كبير منه على وسائل التواصل الاجتماعي دون هدف من ذلك، ونظرة واحدة على احتساب متوسط الوقت اليومي الذي نقضيه في برامج التواصل الاجتماعي كفيلة ببيان جزء من الخلل!
إن هذا النص هو دعوة إلى إعادة ضبط مفهومنا وتعاطينا مع الوقت، وترتيب أولوياتنا من جديد، وهو دعوة إلى التعقّل والروية والتؤدة، وإعادة السؤال في كل مرة: لم العجلة؟
إن مفهوم “عيش اللحظة” ليس مفهوماً علمانياً صرفاً، إن “عيش اللحظة” هو مفهوم مجرد يتناول اللحظات الأرضية واللحظات السماوية كذلك، فالوقت بمثابة الوعاء، ولكل منا أهدافه الدنيوية والأخروية ومشاريعه المرتبطة بها، وبمجرد أن نتعامل مع الوقت بمفهوم أوسع وهو “العمر النسبيّ لكل منا”، ونعيد ترتيب أولوياتنا المرتبطة بأهدافنا الدنيوية والأخروية، وندرك أن النجاح ليس في إنجاز هذه الأولويات وإنما في تحقق الغاية منها في نفوسنا؛ عندها سنتعامل مع الوقت تعاملاً ثانوياً، ونتعامل مع العمل الذي نمارسه -أياً يكن- تعاملاً رئيساً، فنعيشه بكليّتنا، دون أن ننصت إلى دقات عقارب الساعة من خلفنا، أما مجرد الحضور مع والدينا وأبنائنا لنصف ساعة بأجسادنا، وانشغال خواطرنا بما سنفعله بعد ذلك، والتلصّص على هواتفنا بين حين وآخر، وهكذا على الدوام فهذا ليس إنجازاً في الحقيقة، إنما هو انعكاس للمفاهيم المادية للإنجاز، وفي الحديث: ”إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عُشرها”[5] لانصراف قلبه عن الخشوع فيها، وتشعّب همومه بين أودية الدنيا ومسالكها مع أنه أقام الصلاة على هيأتيها التي فُرضت بها لكنه لم يحقق الغاية كلها التي لأجلها فرضت الصلاة عليه! فالعمل هو الذي يستغرق الوقت، وليس الوقت هو الذي يستغرق العمل! ضحكتُ ذات مرة عندما أخبرني أحدهم عن جدول سفره إلى دولة مجاورة للسياحة فإذا به لا يكاد يتوقف في سفره للاستماع ولا للاكتشاف اللذان هما غايته من السياحة، إنما ينتقل من بلد لآخر "بسرعة" لالتقاط صور له "على عجل" حتى يوهم نفسه أنه قد "أنجز" سياحته في هذه الدولة بمجرد المرور "السريع" بكلّ مُدنها! حقاً ”إننا فقراء وقت ومرضى وقت بحيث أهملنا أصدقاءنا وعائلاتنا وشركاءنا. نحن بالكاد نعرف كيف نتمتع بالأمور، لأننا نتطلع دائماً إلى الأمور التي تليها، وكثير من الطعام الذي نتناوله بلا طعم وغير صحي. وإذ يصاب أطفالنا بلوثة الاستعجال ذاتها، فإن المستقبل يبدو قاتماً!”[6].
كلمة أخيرة:
إن لهثك للتخلص -ولا أقول لإنجاز!- ما لديك من مهام والتزامات دون رويّة وتؤدة سوف يُنسيك -ذات يوم- الغاية التي تسعى من أجلها لإنجاز مهامك والتزاماتك، وذات صباح تعيس ستكتشف أنك افتقدت اللذة التي اعتدت الاستمتاع بها أثناء السعي إلى أهدافك وطموحاتك، فـ "الجميع يُريد العيش على قمة الجبل، غير مُدركين أنَّ سرّ السعادة يكمن في تسلقه!"[7].
[1] في مديح البطء ص ٢٩ -بتصرف-
[2] في مديح البطء ص٣٠
[3] تدافع وبناء القيم، السياق الدولي والواقع الإسلامي، المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، ص١٣٩
[4] في مديح البطء ص٣٨
[5] تخريج سنن أبي داوود ٧/٢٦٧
[6] في مديح البطء، ص٣٢١
[7] غابرييل غارسيا ماركيز.