إنه العام الحادي والعشرون منذ آخر مرة رأيته فيها، لقد مضى زمن طويل على ذلك، لم يكن مختلفاً عن غيره من أقرانه، كان يتحدث بطريقة عادية تماماً، ولم تكن أساليبه التعليمية والتربوية مختلفة أو مثيرة للاهتمام، سوى أن ابتسامته الوديعة الهادئة، ونظراته الحانية كانت تميزه عن غيره -بالنسبة لي على الأقل-، لقد كان يعيش مثل الآخرين تماماً، فهو يستيقظ في الصباح متجهاً نحو وظيفته “العادية” كبقية الأشخاص، ثم يعود ظهراً إلى منزله ويتناول غداءه “المعتاد” بين عائلته الصغيرة، ثم يخلد إلى النوم، وبعد صلاة العصر يقلنا بسيّارته المتواضعة جداً نحو مسجد الحيّ المجاور ونحن فتية صغار لم نجاوز العاشرة من العمر؛ ليعلمنا بعض السور القصار ثم نعود قبيل غروب الشمس نحو منازلنا ويعود هو لزوجته وأبنائه ليشاركهم قهوة المساء “المعتادة”، أما بعد صلاة العشاء فربما يزور والديه أو أحد أقاربه، ثم يعود إلى بيته ليخلد إلى النوم كأي يوم “عادي” في حياته، لم يكن مشهوراً على حسابات التواصل الاجتماعي، ولا أذكر أن صوته كان جميلاً في تلاوة القرآن، ولن أنسى أنه كان بديناً بدانة ملفتة لنا في ذلك العمر، ولا أظنه يعرف أكثر من ثلاثة دول سياحية آنذاك، أو يفرق بين الطعام الأسباني والمكسيكي -على سبيل المثال-، والذي لا زلت متأكداً منه أنه لم يكن يتميز عن أقرانه بشيء ما سوى أن قلوبنا -ونحن صغار- قد جُبلت على حبه، وهي مزيّة -كما تعلم- لا يُؤبه لها بين مجتمعه وأقرانه من البالغين، وفي الحقيقة؛ لقد كان رجلاً عادياً تماماً! لكنه لم يكن عادياً بالنسبة لي، لقد كان بطلاً حقيقياً!
إن حضارتنا الكبيرة الصغيرة، السعيدة التعيسة -مؤخراً- باتت تعيد تعريف الأشياء من جديد، فلم تعد تتناول عبارة “الرجل العادي” إلا في سياق الذم، وفي أحسن الأحوال فلا تتقبل مجتمعاتنا الحضرية أن تمتدح رجلاً ما بقولك: “فلان عادي”، وهذا وجه المفارقة الغريبة جداً: أن الرجل العادي الذي يمثله معظم البشر ليس رجلاً عادياً! بل هو أقل من عادي، لأن حضارتنا الحديثة تفرض على الرجل العادي أن يكون رجلاً غير عادي! فمن الضروري أن يكون لديه “مشروع تجاري” ناجح، كما يجب عليه أن يمتلك جسداً أسطوانياً مفتول العضلات، ولديه صفحة مشرقة مهنياً على LinkedIn، أما حسابه على Instagram فمن المهم أن يمتلئ بصور خلابة للدول السياحية التي زارها خلال إجازاته السنوية، فضلاً عن مقتنياته باهضة الثمن، وسيارته الرياضية الملفتة -بالدرجة الأولى- للفتيات، وتثير -بالدرجة الثانية- حسّاده من الشباب، هذه هي صورة الرجل العادي -المفترض- التي يجب أن يكون عليها كل رجل على ظهر هذا الكوكب، ويمكن أن تعترض علي بأن هذه الصورة النمطية إنما هي لـ “الرجل الناجح” وليست لـ “الرجل العادي”! وهذا سيعدّ اعترافاً ضمنياً منك بأن ما سوى “الرجل الناجح” فهو رجل “فاشل” بالمعنى الحضاري الحديث، وإن اصطلحنا عليه بعبارة “الرجل العادي”! يذكرني هذا باقتباس ظريف احتفظت به طويلاً عند قراءتي لرواية “جامع الفراشات” والذي يقول فيها “جون فاولز” على لسان بطل الرواية: “إن الرجل العادي هو لعنة الحضارة! ولكنه إنسان عادي أكثر من اللازم، لدرجة أنه يعتبر إنساناً غير عادي!!”(١)
مع ثورة تطبيقات وسائل التواصل الحديثة في السنوات العشر الأخيرة، أعادت المجتمعات تعريف معاييرها بناء على الخطابات الدعائية والتسويقية فضلاً عن خطابات المؤثرين من الفنانين ومشاهير “السوشال ميديا” وغيرهم، والقاسم المشترك بين ذلك كله هو “المال”، فكل ما يراكم الثورة ويعظم الأرباح أصبح جزءاً من معايير الرجل الناجح اليوم، والمفارقة الساخرة أن معايير الرجل الناجح لدى مجتمعاتنا “المسلمة” لا تعنى بمدى تدين الشاب أو الفتاة، ولا بحسن أخلاقهما وأدبهما، فضلاً عن علاقة كل منهما بوالديه وأرحامه وأبنائه وزوجه، ودليل ذلك كثرة السقطات التي تقع من المشاهير والمؤثرين الإعلاميين في الجوانب الخلقية والدينية! فحتماً ستجد نقاشات عديدة في وسائل التواصل الاجتماعي تتساءل عن طراز سيارة المشهور الفلاني، أو الفستان الذي ترتديه المشهورة الفلانية، لكنك لا تكاد تجد نقاشات تمتدح الجوانب الخلقية والدينية في مشاهير “السوشال ميديا” أو حوارات إعلامية جادة لعلاقة “الرجل الناجح” و”الفتاة الناجحة” بالأسرة والأقارب والأصدقاء فضلاً عن التحصيل المعرفي والتميز السلوكي.
إن السبب في حدوث هذا الاختلال المفاهيمي وتذبذب المعايير في مجتمعاتنا الحضرية ليس مقتصراً على الخطابات الإعلامية والتسويقية وخطابات المؤثرين من المشاهير وغيرهم، بل ثمة عنصر آخر مهم ومؤثر تأثيراً بالغاً في إرباك معايير النجاح والفشل، لربما نختلف سوية حوله، لكني سأجازف بالمراهنة عليه بهذه المدونة الصغيرة لو أحببت:) إن العنصر المؤثر حقيقة هو صعوبة أن تكون “عادياً” في زمن غير “عادي”! إن الرجل العادي ليس عادياً وحسب، بل هو بطل حقيقي! فليس من السهولة بمكان؛ أن تُعرِض تماماً عن معايير مجتمعاتنا الحضرية فلا تأبه بها، وتمارس حياتك ممارسة عادية متنازلاً عن جميع التطلعات المالية في سبيل تحقيق اتزان ديني والتزام خلقي، واستقرار أسري واجتماعي، ومكاسب معرفية ومشاريع تطوعية في عصر لا يأبه بهذه المعايير ولا يلتفت لها، بل يلاحقك دوماً بسؤال الوظيفة المرموقة، والدخل العالي، والاستثمار والسفر، والمقتنيات الثمينة، والمباهاة على حسابات التواصل الاجتماعي وغير ذلك، إن الصمود الهادئ، والمضيّ بثبات، والاستقرار النفسي رغم طرقات هذه الأسئلة المزعجة في كل وقت هو البطولة بعينه! فلئن كان الشاب أو الفتاة الذين حققوا معايير مجتمعنا العصري ناجحون حقاً بنظرنا، فإن الرجل العادي والفتاة العادية هم أبطال بالفعل، فيا أيها الإنسان العادي، تهانينا لك!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) صـ219.