على المقعد الأزرق ذي المساند الخشبية أجلس مع طفلتي التي لم تتجاوز الأشهر في غرفة الانتظار، وأصدقك القول أنني أستمتع بعض الشيء في كل مرة أزور فيها عيادات الأطفال في هذا المشفى بالتحديد، ليس لشيء إلا لما أحتفي به من ملاحظات اجتماعية ملفتة! ففي الكرسي المقابل لي شاب وفتاة في مقتبل زواجهما -كما يبدو- وإلى جانبهما خادمة تحمل طفلهما الرضيع وتنشد له -بالإنجليزية مع لكنة آسيوية- وهو لا يكف عن البكاء المتقطع، ووالدته منشغلة بهاتفها كما تعلو وجه زوجها ابتسامة بين حين وآخر وهو يطل على شاشة هاتفه، وعن يميني أب يجلس بين أربعة من أبنائه قد مد يديه أقصى مسافة ممكنة ممسكاً بهاتفه وعلى أنفه تتعلق عدسات نظارته كأنها آيلة للسقوط، وبين ثانية وأخرى نستمع جميعاً إلى صوت صادر من هاتفه: “صن”، “حكم” وأبناؤه من حوله يحاولون لفت انتباهه بألاعيبهم الصبيانية بكل وسيلة ممكنة وهو لا يأبه بهم، وفي طابور تسجيل المواعيد عند استقبال المراجعين طفل صغير يمسك “رضاعته” بيد وباليد الأخرى ممسكاً جهاز “الآيباد”، وفي الحقيقة أنني لم أنتبه إليه لولا أصوات الموسيقى المزعجة الصادرة من تلك الناحية، ويكسر هذه الرتابة المزعجة في غرفة الانتظار دخول امرأة كأنها للتو قد خرجت من مشغل نسائى متجهة إلى حفلة زفاف لكنها أخطأت الطريق فهي تبحث عن مقعد مناسب للجلوس فيه، اتصل بي أخي عندها سائلاً عن مكاني فأخبرته أنني في مكان الخدم فيه أكثر من الممرضات!
يمكنك أن تعقد ندوة ضخمة تتحدث فيها عن القواعد التربوية الصحيحة، أو تقرأ عشرات الكتب التي تخبرك عن وسائل التربية الحديثة، إلا أنني سأخبرك أن كل هذا لا ينفعك بشيء ما دمت لا تعيش تفاصيل الحياة وروتينها اليومي مع أبنائك أو إخوتك الصغار، لن يتحول ابنك صديقاً لك عند الخامسة عشرة من عمره -فجأة- إن كنت تعطيه الايباد منذ صغره لتشغله به عنك، ولن يتحدث كما يتحدث الرجال ما دمت لا تحادثه إلا كما تحادث الأطفال وماء الشباب قد ظهر على وجهه الفتيّ، ولست أدري كيف ترجو منه أن يكتسب عنك خبراتك السلوكية الحياتية وأنت تستثقل اصطحابه معك لمشاويرك اليومية!
كيف نلوم طفلاً لا يمكنه أن يكتشف بيئته الاجتماعية وانفعالاته النفسية إلا من خلال الخادمة المعنية برعايته وجهاز “الآيباد” الذي لا يكاد ينفك عن يديه؟ كيف يمكن له أن يكتسب ملكة التمييز بين الصواب والخطأ الأخلاقي في عرفنا الاجتماعي وهو يعيش مع خادمته أكثر مما يعيش مع والدته ووالده؟ كيف يمكنه أن يعبر باتزان عن مشاعره لغيره وهو لا يكاد يجد أماً أو أباً ينصتون لسؤالاته المتكررة وملاحظاته الساذجة في كل وقت؟ كيف تتكون صلابته النفسية في بيئة لا يعرف فيها سوى البكاء للحصول على الأشياء؟
“أبدوراهمان؟” أيقظني من أفكاري سؤال من ممرضة تقف إلى جانبي ويبدو أنها قد ضجرت من كثرة مناداتها على ابنتي، حملت طفلتي وذهبت إلى عيادة الطبيب، وكما هي العادة سألني بعض الأسئلة التي لم أعرف الإجابة على معظمها، وائذن لي عزيزي القارئ أن أنحرف عن موضوع هذه التدوينة قليلاً إلى نقطة هامشية -بعض الشيء-، فقد اعتدت منذ صغري على الذهاب إلى المشفى -عند الحاجة- مع والدي فقط، لم تكن والدتي تصطحبنا إلا في حالات حرجة جداً أو للتنويم، لذا فقد كان مشهدي مع ابنتي لوحدنا في غرفة الانتظار غير مألوف في الحقيقة، سألني الطبيب حينها على وجه الاستغراب إن كانت “المدام” معك؟! لا زلت أصر على أن المشفى ليس كالسوق، فلا حاجة لذهاب كل العائلة إليه، وهو رأي شخصي بالطبع، وأدرك المصاعب الناتجة عن ذلك كبكاء الطفلة الرضيعة فجأة أو صعوبة العناية بطفل متمرد! إلا أنني لم أفهم بعد الترف الذي أجده في اصطحاب كافة أفراد العائلة والخدم إلى مكان لم يوجد إلا لاستقبال المرضى وحسب! أجبته أنها معي على الهاتف للإجابة على كافة الأسئلة اللازمة.
بعد انقضاء الموعد الطبي، وعند خروجي من عيادة الطبيب، كانت تسير إلى جانبي بخطوات سريعة امرأة وهي تشرح لخادمة تجري خلفها -حاملة بين يديها طفلة صغيرة- ما قاله الطبيب عن “الفايروس” الذي أصاب الطفلة والمخاطر المحتملة الناتجة عنه، وطبيعة الوصفة الطبية لعلاجها، وأساليب الوقاية منه، والخادمة منشغلة بتهدئة الطفلة وفي الوقت نفسه تحاول اللحاق بالأم لفهم كل ما تقوله، تساءلتُ حينها من الأم حقيقة بالنسبة لهذه الطفلة؟!
